فصل: الشاهد السادس والأربعون بعد الخمسمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد السادس والأربعون بعد الخمسمائة

وهو من أبيات الأصول‏:‏ الكامل

فيها اثنتان وأربعون حلوبةً *** سوداً كخافية الغراب الأسحم

على أنه يجوز وصف المميز المفرد بالجمع باعتبار المعنى، كما في البيت، فإن حلوبة مميز مفرد للعدد وقد وصف بالجمع، وهو سود‏:‏ جمع سوداء‏.‏

قال ابن السراج في الأصول‏:‏

وتقول‏:‏ عندي عشرون رجلاً صالحاً، وعشرون رجلاً صالحون، ولا يجوز صالحين على أن تجعله صفة رجل‏.‏

فإن كان جمعاً على لفظ الواحد جاز فيه وجهان، تقول‏:‏ عندي عشرون درهماً جياداً وجيادٌ‏.‏ ومن رفع جعله صفة للعشرين ومن نصب أتبعه التفسير‏.‏ وهذا البيت ينشد على وجهين‏:‏

فيها اثنتان وأربعون حلوبةً *** سوداً كخافية الغراب الأسحم

ويروى‏:‏ سودٌ بالرفع‏.‏

وتقول‏:‏ عندي ثلاث نسوة عجوزان وشابةٌ، وعجوزين وشابةٌ، ترد مرةً على ثلاث، ومرة على نسوة‏.‏ انتهى‏.‏

فعرف أن كلام الشارح ليس على إطلاقه، وينبغي تقييده بأن تكون الصفة على زنة المفرد، بأن لا تكون جمعاً‏.‏

وبالنصب والرفع رواه شراح معلقة عنترة‏.‏

قال أبو جعفر والخطيب والتبريزي‏:‏ قوله‏:‏ سوداً نعت لحلوبة، لأنها في معنى الجماعة، والمعنى من الحلائب‏.‏

ويروى‏:‏ سودٌ على أن يكون نعتاً لقوله‏:‏ اثنتان وأربعون ‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف جاز أن ينعتهما وأحدهما معطوف على صاحبه‏؟‏ قيل‏:‏ لأنهما قد اجتمعا، فصارا بمنزلة قولك‏:‏ جاءني زيد وعمرٌو الظريفان‏.‏ انتهى‏.‏

قال العيني‏:‏ الشاهد في قوله‏:‏ سوداً، فإنها نعتٌ لقوله حلوبة، وروعي فيها اللفظ‏.‏ انتهى‏.‏

ووجه ما قاله شراح معلقة عنترة‏:‏ أبو جعفر النحوي، والأعلم، والخطيب، أن الحلوبة تستعمل في الواحد والجمع على لفظٍ واحد، يقال‏:‏ ناقةٌ حلوبة، وإبلٌ حلوبة‏.‏

وقال الزوزني في شرح المعلقة‏:‏ الحلوبة‏:‏ جمع الحلوب عند البصريين، وكذلك قتوبة وقتوب، وركوبة وركوب‏.‏ وقال غيرهم‏:‏ هي بمعنى محلوب، وفعولٌ إذا كان بمعنى المفعول جاز أن تلحقه التاء‏.‏ انتهى‏.‏

وعلى هذا لا شاهد فيه، ويكون من وصف الجمع بالجمع‏.‏

ولم يذكر الإمام المزوقي في شرح الفصيح غير هذا الأخير، قال‏:‏ وفعول إذا كان في معنى مفعول قد تلحقه الهاء، نحو‏:‏ ركوبة وحلوبة وقتوبة‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وبما تقدم يرد قول الأعلم، في زعمه أن سوداً ليس بوصف الحلوبة‏.‏ قال‏:‏ قوله‏:‏ سوداً حال من قوله‏:‏ اثنتان وأربعون، وهو حال من نكرة‏.‏ ويجوز رفعه على النعت‏.‏ ولا يكون نعتاً لحلوبة لأنها مفردة، إذ كانت تمييزاً للعدد، وسوداً جمع، ولا ينعت الواحد بالجمع‏.‏ انتهى‏.‏

ويعرف جوابه مما سقناه‏.‏

والبيت من معلقة عنترة بن شداد العبسي، وقبله‏:‏ الكامل

ما راعني إلا حمولة أهله *** وسط الديار تسف حب الخمخم

راعني‏:‏ أفزعني‏.‏ والحمولة، بفتح الحاء‏:‏ الإبل التي يحمل عليها‏.‏ ووسط‏:‏ ظرف‏.‏ وتسف‏:‏ تأكل، يقال‏:‏ سففت الدواء وغيره بالكسر، أسفه بالفتح‏.‏

قال أبو عمرو الشيباني‏:‏ والخمخم، بكسر الخائين المعجمتين‏:‏ بقله لها حبٌّ أسود، إذا أكلته الغنم، قلت ألبانها وتغيرت‏.‏ وإنما وصف أنها تأكل هذا لأنها لم تجد غيره‏.‏

وروى ابن الأعرابي‏:‏ الحمحم، بكسر الحائين المهملتين، يروى بضمهما‏.‏ وقال‏:‏ الحمحم أسرع هيجاً، أي‏:‏ يبساً، من الخمخم‏.‏

وإنما راعه كون الحمولة وسط الدار، لأنها كانت عازبةً في المرعى، فلما أرادوا الرحيل ردوها إلى الديار ليتحملوا عليها، فأفزعه ذلك‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ معنى البيت أنه راعه سف الحمولة حب الخمخم، لأنه لم يبق شيء إلا الرحيل، فصارت تأكل حب الخمخم، وذلك أنهم كانوا مجتمعين في الربيع، فلما يبس البقل ارتحلوا، وتفرقوا‏.‏

يقول‏:‏ لما جئت فنظرت إلى أهلها قد تحملوا أفزعني ذلك، لفراقي إياها‏.‏

وقوله‏:‏ فيها اثنتان وأربعون حلوبة إلخ، أي‏:‏ في هذه الحمولة من النوق التي تحلب اثنتان وأربعون حلوبة‏.‏

وقال العيني‏:‏ الضمير راجعٌ للركاب في بيت قبله‏.‏

وهذا خلاف الظاهر مع القرب‏.‏ وفيها خبر مقدم، واثنتان‏:‏ مبتدأ مؤخر، والجملة حال من الحمولة‏.‏

قال أبو جعفر، والخطيب‏:‏ اثنتان مرفوع بالابتداء، وإن شئت بالاستقرار‏.‏ يريد‏:‏ أن فيها حالٌ من حمولة، واثنتان فاعل فيها‏.‏

وقالا‏:‏ ويروى‏:‏ خلية، بفتح الخاء المعجمة بدل حلوبة‏.‏ والخلية‏:‏ أن يعطف على الحوار ثلاثٌ من النوق، ثم يتخلى الراعي بواحدةٍ منهن‏.‏ فتلك الخلية‏.‏ وأوضح منه أن الخلية ناقةٌ تعطف مع أخرى على ولدٍ واحد فتدران عليه، ويتخلى أهل البيت بواحدةٍ يحلبونها‏.‏

وقوله‏:‏ كخافية صفة سوداً‏.‏ وشبه سواد تلك النوق الحلائب بسواد خوافي الغراب، وهي أواخر الريش من الجناح مما يلي الظهر، سمين بذلك لخفائها‏.‏ والأسحم‏:‏ الأسود‏.‏ وإنما خص الخوافي لأنها أبسط وأشد بريقاً وألين‏.‏

وإنما ذكر أن في إبلهم هذا العدد من الحلوبة السود ليخبر بكثرتهم، وكثرة إبلهم، لأنه إذا كان في إبلهم هذا العدد من هذا الصنف على غرابته وقلته، فغيره من أصناف الإبل أكثر من أن يحصى عدده‏.‏ وإنما وصفها بالسود لأنها أنفس الإبل عندهم وأعزها‏.‏

وترجمة عنترة صاحب المعلقة، تقدمت في الشاهد الثاني عشر، من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السابع والأربعون بعد الخمسمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

وكان مجني دون من كنت أتقي *** ثلاث شخوصٍ‏:‏ كاعبان ومعصر

على أنه يجوز اعتبار المعنى، فتجرد علامة التأنيث من عدد المؤنث المعنوي، كما هنا، فإنه جرد ثلاثاً من التاء لكون شخوص بمعنى نساء، بدليل الإبدال عنه بما بعده‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وزعم يونس عن رؤبة، أنه قال‏:‏ ثلاث أنفس على تأنيث النفس، كما تقول‏:‏ ثلاث أعين للعين من الناس‏.‏

قال الحطيئة‏:‏ الوافر

ثلاثة أنفسٍ وثلاث ذودٍ *** لقد جار الزمان على عيالي

وقال عمر بن أبي ربيعة‏:‏

فكان مجني دون من كنت أتقي *** ثلاث شخوصٍ‏:‏ كاعبان ومعصر

فأنث الشخص إذ كان في المعنى أنثى‏.‏ انتهى‏.‏

قال أبو جعفر النحاس‏:‏ قرأت على أبي الحسن علي بن سليمان، عن أبي العباس المبرد هذا البيت‏.‏

قال أبو العباس‏:‏ لما اضطر جعل الشخص بدلاً من امرأة إذ كان يقصدها به، ولذلك قال‏:‏ كاعبان ومعصر، فأبان‏.‏ ومن ذلك قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏}‏ لأن المعنى واقعٌ على حسنات، وأمثال نعتٌ لما وقع عليه العدد‏.‏

وكذلك‏:‏ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً لأن المعنى واقعٌ على جماعات‏.‏

وعلى هذا تقول‏:‏ عندي عشرة نسابات، لأنك تريد الرجال، وإنما نسابات نعت‏.‏ وتقول‏:‏ إذا عنيت المذكر‏:‏ عندي ثلاثة دوابٌ يا فتى، لأن الدواب نعت، فكأنك قلت‏:‏ عندي ثلاثة براذين دواب‏.‏

وتقول‏:‏ عندي خمسٌ من الشاء، لأن الواحدة شاةٌ لذكر كان وأنثى‏.‏ انتهى‏.‏

وما نقله عن المبرد هو مسطور في الكامل، قال فيه‏:‏ قوله‏:‏ ثلاث شخوص، الوجه ثلاثة شخوص، ولكنه قصد إلى نساءٍ أنث على المعنى‏.‏ وأبان ما أراد بقوله‏:‏ كاعبان ومعصر‏.‏

ومثله قول الشاعر‏:‏ الطويل

فإن كلاباً هذه عشر أبطنٍ *** وأنت برئٌ من قبائلها العشر

فقال‏:‏ عشر أبطن، لأن البطن قبيلة، وأبان ذلك في قوله‏:‏ من قبائلها العشر‏.‏ وقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏}‏؛ لأن المعنى حسنات‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا قال السكري في شرح أشعار اللصوص، قال‏:‏ كان يجب أن يقول‏:‏ ثلاثة، لأن الشخوص مذكرة، ولكنه ذهب إلى أعيان النساء، لأنهن مؤنثات، وإن كان سبب اللفظ مذكراً‏.‏

وقد أدرج ابن جني في الخصائص هذا في فصل سماه الحمل على المعنى، قال‏:‏ اعلم أن هذا الشرج غورٌ من العربية بعيد، ومذهب نازح فصيح، قد ورد به القرآن وفصيح الكلام، منثوراً ومنظوماً، كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث، وتصور معنى الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد‏.‏

ثم قال‏:‏ فمن تذكير المؤنث قول الحطيئة‏:‏ ثلاثة أنفس، ذهب بالنفس إلى الإنسان فذكر‏.‏ وقال عمر‏:‏ ثلاث شخوص، أنت الشخص لأنه أراد به المرأة‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن السكيت في كتاب المذكر والمؤنث‏:‏ أنت الشخوص لأنها شخوص إناث‏.‏ فلو قلت‏:‏ ثلاثة شخوص كان أجود، لأن الشخص ذكر وإن كان لأنثى‏.‏

ومما اجتمعت عليه العرب لإيثار المضمر على الظاهر، قولهم‏:‏ ثلاثة أنفس، وثلاثة أعيان‏.‏ والخليل يختار‏:‏ ثلاث أعين‏.‏ والعين والنفس أنثيان، فذهبوا إلى أعيان الرجال وأنفس الرجال‏.‏

فإذا وجهت النفس إلى الرجل والمرأة ذهبت بهما جميعاً إلى التذكير، لأنه غير مؤنث، فتصير النفس تؤدي عن الإنسان، ويؤدي الإنسان عن الذكر والأنثى، فتقول‏:‏ ثلاثة أنفس، كما تقول‏:‏ ثلاثة من الناس وإن عنيت نساء‏.‏

فإن أردت الزوج كانت النفس أنثى، وإذا أفردتها بفعل ووصفتها به عاملتها معاملة التأنيث، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏خلقكم من نفس واحدة‏}‏ ولم يقل واحد وهو آدم‏.‏

وقد يجوز لك أن تذهب إلى المعنى، فإن كانت أنثى أنثت، وإن كان ذكراً ذكرت‏.‏ وليس بالوجه‏.‏ انتهى‏.‏ والمجن، بكسر الميم‏:‏ الترس‏.‏ قال العيني‏:‏ ويروى‏:‏ فكان نصيري، بدل مجني، ومعناه‏:‏ مانعي وساتري‏.‏ ويروى‏:‏ بصيري بالباء الموحدة، جمع بصيرة، وهي الترس‏.‏ حكاه أبو عبيدة‏.‏

وقال ابن سيده‏:‏ يؤيده رواية من روى‏:‏ فكان مجني‏.‏ قال‏:‏ وأكثر الناس يرونه‏:‏ نصيري، بالنون‏.‏ وهو تصحيف‏.‏

وقال أبو الحجاج‏:‏ هذا القول فيه إفراط، ورواية النون غير بعيدة من الصواب، وإن كان رواية الباء أظهر لقوله‏:‏ دون، ولم يقل‏:‏ على المستعملة مع النصر في مثل هذا النحو‏.‏ انتهى‏.‏ والكاعب، قال الجوهري‏:‏ هي الجارية التي يبدو ثديها للنهود‏.‏ وقد كعبت تكعب بالضم كعوباً؛ وكعبت بالتشديد تكعيباً مثله‏.‏ ومعصر، بضم الميم وكسر الصاد، هي الجارية أول ما أدركت وحاضت‏.‏ يقال‏:‏ قد أعصرت، كأنها دخلت عصر شبابه وبلغته‏.‏

قال الراجز‏:‏ الرجز

جارية بسفوان داره *** يرتج عن مثل النقا إزارها

قد أعصرت وقد دنا إعصارها

والبيت من قصيدة طويلة لعمر بن أبي ربيعة تقدم نقلها في الشاهد التسعين بعد الثلثمائة‏.‏

وهذه أبيات قبله‏:‏

فلما تقضى الليل إلا أقله *** وكادت توالي نجمه تتغور

أشارت بأن الحي قد حان منهم *** هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزور

فلما رأت من قد تنور منهم *** وأيقاظهم قالت‏:‏ أشر كيف تأمر

فقلت‏:‏ أباديهم فإما أفوتهم *** وإما ينال السيف ثأراً فيثأر

فقالت‏:‏ أتحقيقاً لما قال اكشحٌ *** علينا وتصديقاً لما كان يؤثر

فإن كان ما لا بد منه فغيره *** من الأمر أدنى للخفاء وأستر

أقص على أختي بدء حديثن *** ومالي من أن تعلما متأخر

لعلهما أن تبغيا لك مخرج *** وأن ترحبا سرباً بما كنت أحصر

فقالت لأختيها‏:‏ أعينا على فتًى *** أتى زائراً والأمر للأمر يقدر

فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا‏:‏ *** أقلي عليك اللوم فالخطب أيسر

يقوم فيمشي بيننا متنكر *** فلا سرنا يفشو ولا هو يبصر

فكان مجني دون من كنت أتقي *** ثلاث شخوصٍ كاعبان ومعصر

التوالي‏:‏ التتابع‏.‏ وتتغور‏:‏ تغور فتذهب، وهو مأخوذ من الغور‏.‏ والهبوب‏:‏ الانتباه، يقال‏:‏ هب من نومه، إذا استيقظ‏.‏ وعزور، بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة، بعدها واو مفتوحة، قال أبو علي‏:‏ هي ثنية الجحفة‏.‏

وقال السكوني‏:‏ عزور‏:‏ جبلٌ بينه وبين جبل رضوى قدر شوط الفرس‏.‏ وهما جبلان شاهقان منيعان لا يرومهما أحد‏.‏

ورضوى من ينبع على يوم، ومن المدينة على سبع مراحل، ميامنةً طريق المدينة، ومياسرة طريق البر لمن كان مصعداً إلى مكة، وعلى ليلتين من البحر‏.‏ كذا في معجم ما استعجم للبكري‏.‏ وأيقاظ‏:‏ جمع يقظ، بفتح الياء وضم القاف، بمعنى يقظان‏.‏

وقوله‏:‏ فقالت أتحقيقاً من كلام العرب‏:‏ أكل هذا بخلاً‏.‏ وذلك أنه رآه يفعل شيئاً يكره فقال‏:‏ أكل هذا تفعل بخلاً‏.‏

وقوله‏:‏ أباديهم يريد أظهر لهم، غير مهموز‏.‏ يقال بدا يبدو غير مهموز، إذا ظهر‏.‏

وقوله‏:‏ بدء حديثنا‏:‏ يريد أول حديثنا‏.‏

وقوله‏:‏ وأن ترحبا ، يريد أن تتسعا، أي‏:‏ تتسع صدورهما، من قولك‏:‏ فلان رحيب الصدر‏.‏

وقوله‏:‏ أحصر، أي‏:‏ أضيق به ذرعا، يقال حصر صدره، بمهملات، من باب فرح، إذا ضاق‏.‏ والسرب، بالفتح‏:‏ الطريق‏.‏

وقوله‏:‏ فكان مجني إلخ، أي‏:‏ وقايتي‏.‏ ودون بمعنى قدام‏.‏ ومجنى اسم كان، وثلاث بالنصب خبرها، ومن موصوله والعائد محذوف، أي‏:‏ أتقيه‏.‏

ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة اعترض الناس، فمر به رجلٌ من أهل الشام ومعه ترسٌ قبيح، فقال‏:‏ يا أخا أهل الشام، مجن ابن أبي ربيعة أحسن من مجنك‏.‏ يشير إلى هذا البيت‏.‏

وترجمة عمر بن أبي ربيعة تقدمت في الشاهد السابع والثمانين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثامن والأربعون بعد الخمسمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الرجز

كأن خصييه من التدلدل *** ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل

على أنه ضرورة، والقياس حنظلتان بدون العدد، لما بينه الشارح المحقق‏.‏

وأورده سيبويه في باب تكسير الواحد للجميع بعد باب العدد‏.‏ قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه إضافة ثنتا إلى الحنظل، وهو اسم يقع على جميع الجنس‏.‏ وحق العدد القليل أن يضاف إلى الجمع القليل‏.‏

وإنما جاز على تقدير‏:‏ ثنتان من الحنظل‏.‏ هذا كما قال‏:‏ ثلاثة فلوس، أي‏:‏ ثلاثة من هذا الجنس، على ما بينه في الباب‏.‏

والتدلدل‏:‏ التعلق والاضطراب‏.‏ وكان الوجه أن يقول‏:‏ حنظلتان، فبناه على قياس الثلاثة وما بعدها إلى العشرة‏.‏ وإنما خص ظرف العجوز لأنها لا تستعمل طيباً، ولا غيره مما يتصنع به النساء للرجال، يأساً منهم، ولكنها تدخر الحنظل ونحوه من الأدوية‏.‏ وظرف العجوز هو مزدوها الذي تخزن فيه متاعها‏.‏ انتهى‏.‏

وهذان البيتان أوردهما أبو تمام في باب الملح من الحماسة‏.‏ وروى‏:‏ سحق جراب بدل ظرف عجوز‏.‏

قال ابن جني في إعرابها‏:‏ أخرج التثنية عن أصلها، وذلك أن قياسها على الجمع عندي اثنا رجال، كقولهم‏:‏ عندي ثلاثة رجال، غير أن التثنية لما أمكنك فيها انتظام العدة وبيان النوع، غنيت بقليل اللفظ عن كثيره، أي‏:‏ غنيت برجلان عن اثنا رجال‏.‏ فلما قال ثنتا حنظل علمت بذلك أنه أخرجه على قياس الجمع‏.‏ ويريد‏:‏ كأن خصييه بما عليهما من الصفن، وكأن ما عليهما منه بهما، سحق جراب فيه ثنتا حنظل، فحذف اختصاراً، وعلماً بما يعنيه‏.‏ انتهى‏.‏

وأورده الشارح المحقق في باب التثنية‏.‏ وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله هناك في وجه تثنية خصي‏.‏ والسحق بالفتح‏:‏ الخلق‏.‏ والحنظل واحدها حنظلة‏.‏

وروي عن أبي حاتم أنه قال‏:‏ الحنظل ها هنا الثوم‏.‏

وأوردهما الأعلم في حماسته برواية‏:‏ ظرف عجوز‏.‏ وكتب في الهامش‏:‏ شبه خصيتيه في استرخاء صنفهما وتجلجل بيضتهما، حين شاخ واسترخت جلدة استه، بظرف عجوز فيه حنظلتان‏.‏

وخص العجوز لأنها لا تستعمل الطيب، ولا تتزين للرجال، فيكون في ظرفها ما لا تتزين به، ولكنها تدخر الحنظل ونحوه من الأدوية‏.‏

ويحتمل أن يكون هذا في وصف شجاع لا يجبن في الحرب فتتقلص خصيتاه‏.‏ ويحتمل أن يكون هجواً‏.‏

ووجهه أن يصف شيخاً قد كبر وأسن؛ ولذلك قال‏:‏ ظرف عجوز، لأن ظرف العجوز خلقٌ متقبض فيه تشنج لقدمه، فلذلك شبه جلد الخصية به للغصون التي فيه‏.‏

والأولى أن يكون هجواً لذكره العجوز، مع تصريحه بذكر الخصيتين‏.‏ ومثل هذا لا يصلح للمدح‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا الكلام هو ما قاله أبو عبد الله النمري في شرح الحماسة، وزيفه أبو محمد الأعرابي، الشهير بالأسود الغندجاني‏.‏ قال فيما كتبه على شرح النمري‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ هذا يحتمل الذم والمدح، إلا أن يكون له تمام فيحمل عليه‏.‏

فأما الذم فهو أن يصف شيخاً قد اضطرب جلده لكبر سنه وهرمه‏.‏ وأما المدح فهو أن الأبطال يوصفون، إذا شهدوا الحرب، بطول الخصى وقلة تقلصها‏.‏ قال أبو محمد الأعرابي‏:‏ هذا موضع المثل‏:‏

لا تقعن البحر إلا سابحاً

قوله‏:‏ هذا يحتمل الذم والمدح يدل على أنه لم يمارس الأشعار والأراجيز، ولم يستقر الدواوين‏.‏ ومثل هذا البيت لا يعرف معناه قياساً إلا بمعرفة ما يتقدمه من الأبيات‏.‏ وقد أثبتها لك ها هنا لئلا يشتبه عليك من معنى البيت ما اشتبه على أبي عبد الله، فتكونا زندين في مرقعة‏.‏

والأبيات لخطامٍ المجاشعي، وهي من نوادر الرجز‏:‏

يا رب بيضاء بوعس الأرمل *** شبيهة العين بعيني مغزل

فيها طماحٌ عن حليلٍ حنكل *** وهي تداري ذاك بالتجمل

قد شفعت بناشئٍ هبركل *** ينفض عطفي خضل مرجل

يحسب مختالاً وإن لم يختل *** دس إليها برسولٍ مجمل

عن كيف بالوصل لكم أم كيف لي *** فلم تزل عن زوجها المختشل

ابعث وكن في الرائحين وكل *** وكل ما أكلت في محلل

وأوقرن يا هديت جملي *** حتى إذا دب الرضا في المفصل

وكان في القلب تحيت المسعل *** ثم غدا الشيخ لها بأزفل

من الرضا جنعدل التكتل *** كأن خصييه من التدلدل

ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل *** لما غدا تبهلت‏:‏ لا تأتلي

عن‏:‏ رب يا رب عليه عجل *** برهصةٍ تقتله ودمل وحيةٍ تعض فوق المفصل

قال أبو محمد الأعرابي‏:‏ فقوله‏:‏ كأن خصييه من التدلدل أذم ذمٍّ يكون في الشيخ‏.‏ وذلك أنهما يتدليان من الكبر، كما قال الآخر‏:‏ الرجز

قد حلفت بالله لا أحبه *** أن طال خصياه وقصر زبه

يقال لمن هذه صفته‏:‏ الدودري‏.‏ انتهى ما أورده‏.‏

وبيضاء‏:‏ امرأة حسناء‏.‏ والوعس‏:‏ جمع وعساء، وهي أرضٌ لينة ذات رمل‏.‏ والأرمل‏:‏ جمع رمل‏.‏ ومغزل‏:‏ ظبية ذات غزال‏.‏ شبه عينها بعين الظبية‏.‏ والطماح بالكسر‏:‏ الجماح‏.‏ والحليل‏:‏ الزوج‏.‏ وروى‏:‏ خليل بالمعجمة، وهو الصديق‏.‏ والحنكل بفتح الحاء وسكون النون وفتح الكاف‏:‏ القصير، واللئيم، والجافي الغليظ‏.‏ كذا في القاموس‏.‏ وتداري من المداراة‏.‏ والتجمل‏:‏ تكلف الجميل‏.‏

وقوله‏:‏ قد شفعت هو جواب رب‏.‏ وشغف الهوى قلبه، من باب نفع، إذا بلغ شغافه بالفتح، أي‏:‏ غشاءه‏.‏ والناشئ، مهموز الآخر، وهو الحدث الذي جاوز حد الصغر‏.‏ والهبركل، بفتح الهاء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف‏:‏ الشاب الحسن الجسم‏.‏ وينفض‏:‏ يحرك‏.‏ والعطف، بالكسر‏:‏ الجانب‏.‏ ونفض العطف كنايةٌ عن العجب والغرور‏.‏ والخضب، بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين‏:‏ الرطب، والناعم‏.‏ أي‏:‏ قوامٌ خضل‏.‏ والمرجل‏:‏ الموشى والمزين‏.‏ ويحسب بالبناء للمفعول‏.‏ والضمير للناشئ‏.‏ والمختال‏:‏ المعجب بنفسه‏.‏ وإن لم يختل، أي‏:‏ وإن لم يعجب بنفسه، وأصله يختال‏:‏ حذفت الألف لالتقاء الساكنين بالجزم‏.‏ ودس‏:‏ أرسل بخفية‏.‏ والباء في برسول زائدة‏.‏ ومجمل‏:‏ اسم فاعل من أجمل في الطلب، إذا رفق‏.‏

وقوله‏:‏ عن كيف إلخ عن لغة في أن، وهي تفسيرية‏.‏ والمختشل‏:‏ اسم فاعل من اختشل، بالخاء والشين المعجمتين، إذا ذل وضعف‏.‏ والمفصل، بكسر الميم وفتح الصاد‏:‏ اللسان‏.‏ وتحيت‏:‏ مصغر تحت‏.‏ والمسعل‏:‏ محل السعال‏.‏ والأزفل، بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح الفاء‏:‏ الغضب والحدة‏.‏

وقوله‏:‏ من الرضا إلخ، من‏:‏ ابتدائية‏.‏ وجنعدل، بفتح الجيم وضمها وفتح النون وسكون العين وفتح الدال‏:‏ الصلب الشديد‏.‏ والتكتل‏:‏ الاكتناز‏.‏ وتبهلت‏:‏ تضرعت، ودعت‏.‏ ولا تأتلي‏:‏ لا تقصر‏.‏ وعن لغة في أن‏.‏ ورب‏:‏ منادى‏.‏ والرهصة، بفتح الراء‏:‏ أن يتلف باطن حافر الدابة من حجرٍ يطؤه‏.‏

والدودري، بفتح الدال وسكون الواو وفتح الدال الثانية وكسر الراء وتشديد الياء‏.‏

وفيه لغة أخرى‏:‏ دردريٌّ بالراء موضع الواو‏.‏ وقلا صاحب القاموس‏:‏ وهو الآدر، الطويل الخصيتين، والذي يذهب ويجيء في غير حاجة‏.‏

وقال ابن المستوفي‏:‏ ويروى قبل الرجز الشاهد قوله‏:‏ الرجز

تقول‏:‏ يا رباه، يا رب هل *** إن كنت من هذا منجي أحبلي

إما بتطليقٍ وإما بأرحلي *** وارم في وجعائه بدمل

وقال العيني في هذا‏:‏ الرجز لجندل بن المثنى‏.‏ وفي شرح الفصيح قال ابن السرافي‏:‏ قالته سلمى الهذلية‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ شرح ابن السيرافي هذين البيتين في شرح أبيات إصلاح المنطق ولم يذكر هذه الأبيات الأربعة المتقدمة عليهما، ولا نسب الرجز لأحد‏.‏ وهذه عبارته‏:‏ التدلدل‏:‏ تحرك الشيء المعلق واضطرابه‏.‏ وظرف العجوز‏:‏ الجراب الذي تجعل فيه خبزها وما تحتاج إليه‏.‏ وظرف العجوز خلقٌ متقبض، فيه تشنج لقدمه‏.‏

شبه جلد الخصية به، للغضون التي فيه‏.‏ وشبه الأنثيين في الصفن بحنظلتين في جراب‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن المستوفي‏:‏ قال ابن السيرافي‏:‏ حكى هذا الشاعر عن امرأةٍ أنها دعت على زوجها وطلبت الراحة منه‏.‏

وقولها‏:‏ هل أرادت هل تحسن إلي بتفريق ما بيني وبينه من الوصلة وعقد التزويج‏.‏ والأحبل‏:‏ جمع حبل، وهو ما بينهما من العقد‏.‏ ومنجي‏:‏ خبر كنت، وأسكن الياء من أجل القافية‏.‏

وقوله‏:‏ إما بتطليق‏:‏ إما أن يطلق طلاقاً بيناً‏.‏ وإما أن يقول ارحلي، يريد به الطلاق‏.‏ وحذف المستفهم عنه اعتماداً على فهم السامع‏.‏ وحذف جواب لا شرط، وهو إن كنت منجياً لي من هذا الرجل فافعل‏.‏

وقوله‏:‏ وارم في وجعائه إلخ هذا البيت أورده العيني بعد الثلاثة وقال‏:‏ الوجعاء، بفتح الواو وسكون الجيم والمد‏:‏ الاست‏.‏

وتقدمت ترجمة خطام المجاشعي في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد التاسع والأربعون بعد الخمسمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

فطافت ثلاثاً بين يوم وليلةٍ *** وكان النكير أن تضيف وتجأرا

على أن العدد المميز بمذكر ومؤنث معاً المفصول بينه وبينهما بلفظ بين أومن، وبالمجموع، إن كان المميزان يوم وليلة، فالغلبة للتأنيث، فإنه اعتبر جانب المؤنث فذكر عدده‏.‏

وإن كان المميزان غير يوم وليلة فالغلبة للتذكير‏.‏

وهاتان المسألتان صرح بهما سيبويه‏.‏ وهذا نصه‏:‏

وتقول‏:‏ سار خمس عشرة من بين يومٍ وليلة، لأنك ألقيت الاسم على الليالي ثم بينت فقلت‏:‏ من بين يوم وليلة‏.‏

ألا ترى أنك تقول‏:‏ لخمسٍ بقين وخلون، ويعلم المخاطب أن الأيام قد دخلت في الليل فإذا ألقي الاسم على الليالي اكتفي بذلك عن الأيام، كما أنك تقول‏:‏ أتيته ضحوة وبكرة، فيعلم المخاطب أنها ضحوة يومك وبكرة يومك‏.‏ وأشباه هذا في الكلام كثير‏.‏

فإنما قوله‏:‏ من بين يوم وليلة توكيدٌ بعد ما وقع على الليالي، لأنه قد علم أن الأيام داخلةٌ مع الليالي‏.‏

قال النابغة الجعدي‏:‏

فطافت ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ *** يكون النكير أن تضيف وتجأرا

وتقول‏:‏ أعطاه خمسة عشر من بين عبدٍ وجارية، لا يكون في هذا إلا هذا، لأن المتكلم لا يجوز له أن يقول‏:‏ خمسة عشر عبداً، فيعلم أن ثم من الجواري بعدتهم، ولا خمس عشرة جارية فيعلم أن ثم من العبيد بعدتهن، فلا يكون هذا إلا مختلطاً، ويقع عليه الإثم الذي بين به العدد‏.‏

وقد يجوز في القياس خمسة عشر من بين يوم وليلة، وليس بحد كلام العرب‏.‏ انتهى‏.‏

وقد عمم الشارح المحقق في قوله‏:‏ الغلبة للتذكير، نحو اشتريت عشرةً بين عبد وأمة، ورأيت خمسة عشر من النوق والجمال ‏.‏

وفي المثالين أربع صور‏.‏ والأول ممن يعقل، والثاني ممن لا يعقل، وفي كلٍّ منهما إما تقديم المذكر وإما تأخيره‏.‏ والحكم في الصور الأربع واحد، وهو تأنيث العدد‏.‏

وهذا صريح قول سيبويه‏:‏ لا يكون في هذا إلا هذا‏.‏ وهذا هو الظاهر، فإن المذكر عاقلاً كان وغيره، لشرفه يغلب على المؤنث، قدم وأخر‏.‏ وهذا يشمل ما لو كان مع غير عاقل، نحو‏:‏ اشتريت أربعة عشر بين عبد وناقة، وبين ناقة وعبد‏.‏

وكذا يغلب مؤنث العاقل على غيره، فتقول‏:‏ اشتريت أربع عشرة بين جمل وأمة، وبين أمة وجمل‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ وهذا هو القياس‏.‏

وقد خالف الفراء في الثلاثة الأخيرة من الأربع في عموم قول الشارح المحقق، فأوجب تذكير العدد فيها لتغليب المؤنث، قال عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشرا‏}‏‏:‏ وتقول‏:‏ عندي ثلاثة بين غلام وجارية، ولا يجوز هنا ثلاث‏.‏

فإن قلت‏:‏ بين ناقة وجمل غلبت التأنيث ولم تبال أبدأت بالجمل وبالناقة، فقلت‏:‏ عندي خمس عشرة بين جمل وناقة‏.‏ ولا يجوز أن تقول‏:‏ عندي خمس عشرة أمة وعبداً، ولا بين أمة وعبد إلا بالتذكير، لأن الذكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ منها بالإناث، ولأن الذكر موسوم بغير سمة الأنثى‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل ابن السكيت كلامه هذا بحروفه في كتاب المؤنث والمذكر وفي كتاب إصلاح المنطق‏.‏

ووافق أبو حيان الشارح فيمن يعقل وخالفه فيمن لا يعقل‏.‏ قال في الارتشاف‏:‏ وإذا ميزت عدداً مركباً بمذكر ومؤنث ذوي عقل، فالحكم في العدد للمذكر، سواء أقدم التمييز المذكر أم أخر، واتصل بالمركب وانفصل يبين، وكان المذكر نصف وأقل‏.‏

تقول‏:‏ اشتريت خمسة عشر عبداً وأمة، وأمة وعبداً، وبين عبد وأمة، وبين أمة وعبد، تغلب المذكر، ولو كان واحداً‏.‏

فإن عدم العقل منهما، فإما أن يتصل التمييزان بالمركب ويفصل ببين‏.‏ فإن اتصل فالحكم للسابق منهما، فتقول‏:‏ اشتريت ستة عشر جملاً وناقة، وست عشرة ناقة وجملاً‏.‏

وإن فصلت بين فالحكم للمؤنث‏.‏ تقول‏:‏ اشتريت ست عشرة بين جمل وناقة، وست عشرة بين ناقة وجمل‏.‏ انتهى‏.‏

وقول الشارح المحقق‏:‏ إذا أبهمت الليالي ولم تذكر جرى اللفظ على التأنيث إلخ، لم يجعله عند الإبهام من باب التغليب موافقةً لسيبويه، إذ لا يصدق عليه تعريف التغليب، وهو أن تعم كلا الصنفين بلفظ أحدهما، إذ لم يذكر عند الإبهام شيءٌ من الليالي والأيام حتى يغلب أحدهما على الآخر‏.‏

وإنما أراد الشارح أن الليالي مستلزمة الأيام، والأيام تابعةٌ لها وداخلة فيها، كما قال سيبويه في‏:‏ لخمسٍ بقين‏.‏

قال الزجاج في تفسير الآية المذكورة‏:‏ معنى قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وعشراً‏}‏ يدخل فيها الأيام‏.‏ زعم سيبويه أنك إذا قلت‏:‏ لخمسٍ بقين قد علم المخاطب أن الأيام داخلة مع الليالي‏.‏ وزعم غيره أن لفظ التأنيث مغلب في هذا الباب‏.‏ انتهى‏.‏

وأراد بغير سيبويه الفراء، فإنه زعم في تفسيره عند هذه الآية أنه تغليب‏.‏ قال‏:‏ لم يقل وعشرة؛ لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام غلبوا عليه الليالي، حتى إنهم ليقولون‏:‏ صمنا خمساً من شهر رمضان، لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام‏.‏

فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء، والذكران بالهاء، كما قال الله تعالى‏:‏ سبع ليالٍ وثمانية أيام ‏.‏ وإن جعلت العدد غير متصل بالأيام كما يتصل الخافض بما بعده غلبت الليالي أيضاً على الأيام‏.‏ فإذا اختلطا فكانت ليالي وأياماً غلبت التأنيث فقلت‏:‏ مضى له سبعٌ، ثم تقول بعد أيام‏:‏ فيها برد شديد‏.‏

وأما المختلط فقول الشاعر‏:‏

أقامت ثلاثاً بين يومٍ وليلة

فقال‏:‏ ثلاثاً وفيها أيام‏.‏ انتهى‏.‏

ويرد عليه ما ذكر من أنه ليس من التغليب قي شيء، وهو أول من ذهب إليه‏.‏ لا الزجاج، فإنه حاكٍ للمذهبين‏.‏ ولا الزجاجي، فإنه تلميذه‏.‏

قال ابن مالك في فصل التاريخ من شرح الكافية الشافية‏.‏ أول الشهر ليلة طلوع هلاله، فلذلك أوثر في التاريخ قصد الليالي واستغني عن قصد الأيام، لأن كل ليلة من أيام الشهر يتبعها يومٌ، فأغناهم قد المتبوع عن التابع‏.‏

وليس هذا من التغليب، لأن التغليب هو أن تعم كلا الصنفين بلفظ أحدهما، كقولك‏:‏ الزيدون والهندات خرجوا‏.‏

فالواو قد عمت الزيدين والهندات تغيباً للمذكر‏.‏ وقولك‏:‏ كتب لخمس خلون لا يتناول إلا الليالي، والأيام مستغنى عن ذكرها، لكون المراد مفهوماً‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو حيان في الارتشاف‏:‏ التأريخ عدد الليالي والأيام بالنسبة إلى ما مضى من الشهر والسنة وإلى ما بقي منهما‏.‏ وفعله أرخ وورخ، تأريخاً وتوريخاً، لغتان‏.‏

فإن ذكرت الليالي والأيام بالنسبة إلى السنة والشهر وذكرت العدد، كان على جنسه من تذكير وتأنيث‏.‏ فتقول‏:‏ سرت من شهر كذا خمس ليال، وخمسة أيام‏.‏ وإن لم تذكر المعدود، فالعرب تستغني بالليالي عن الأيام، فتقول‏:‏ كتب لثلاث خلون من شهر كذا، وليس من تغليب المؤنث على المذكر، خلافاً لقوم منهم الزجاجي‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن هشام في المغني‏:‏ قالوا‏:‏ يغلب المؤنث على المذكر في مسألتين‏:‏ إحداهما‏:‏ ضبعان في تثنية ضبع للمؤنث وضبعان للمذكر، إذ لم يقولوا‏:‏ ضبعانان‏.‏

والثانية‏:‏ التأريخ، فإنهم أرخوا بالليالي دون الأيام‏.‏ ذكر ذلك الزجاجي وجماعة‏.‏

وهو سهوٌ، فإن حقيقة التغليب أن يجتمع شيئان فيجري حكم أحدهما على الآخر، ولا يجتمع الليل والنهار‏.‏ ولا هنا تعبيرٌ عن شيئين بلفظ أحدهما، وإنما أرخت العرب بالليالي لسبقها، إذ كانت أشهرهم قمرية، والقمر إنما يطلع ليلاً‏.‏ وإنما المسألة الصحيحة، قولك‏:‏ كتبته لثلاثٍ بين يوم وليلة‏.‏

وضابطه أن يكون معنا عددٌ مميز بمذكر كلاهما مما لا يعقل، وفصلا من العدد بكلمة بين‏.‏

قال‏:‏

فطافت ثلاثاً بين يومٍ وليلة

انتهى‏.‏

قال الشهاب ابن قاسم العبادي فيما كتبه على هامش المغني‏:‏ قد يكون الزجاجي عد اعتبار أحد الأمرين في الاعتبار على الآخر، فلا يحكم بالسهو عليه‏.‏ فليتأمل‏.‏ انتهى‏.‏

وقول ابن هشام‏:‏ قالوا‏:‏ يغلب المؤنث على المذكر في مسألتين إلخ، مأخوذ من درة الغواص للحريري، قال فيها‏:‏ من أصول العربية أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلب حكم المذكر على المؤنث، إلا في موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنك متى أردت تثنية المذكر والأنثى من الضباع، قلت‏:‏ ضبعان، فأجريت التثنية على لفظ المؤنث الذي هو ضبع، لا على لفظ المذكر الذي هو ضبعان‏.‏ وإنما فعل ذلك فراراً مما كان يجتمع من الزوائد لو ثني على لفظ المذكر‏.‏

والموضع الثاني‏:‏ أنهم في باب التاريخ، أرخوا بالليالي دون الأيام‏.‏ وإنما فعلوا ذلك مراعاةً للأسبق، والأسبق من الشهر ليلته‏.‏ ومن كلامهم‏:‏ سرنا عشراً من بين يوم وليلة‏.‏ انتهى‏.‏

وفي كل من المسألتين نظر‏.‏

أما الثانية فقد تقدم الكلام عليها، ورد عليه بن بريٍّ فيما كتبه على الدرة، وقال‏:‏ ليس باب التاريخ مما غلب فيه المؤنث كالضبع، بل هو محمول على الليالي فقط، كقولك‏:‏ كتبت لخمس خلون‏.‏ فإن قلت‏:‏ سرت خمسة عشر ما بين يومٍ وليلة فقد غلبت المؤنث على المذكر‏.‏ انتهى‏.‏

وأما الأولى فقد حكى الضبع في المذكر قلا تغليب في تثنيته‏.‏ حكى الدميري في حياة الحيوان عن ابن الأنباري أن الضبع يطلق على الذكر والأنثى‏.‏

وكذلك حكاه ابن هشام الخضراوي في كتاب الإفصاح، في فوائد الإيضاح للفارسي عن أبي العباس وغيره‏.‏ انتهى‏.‏

وكذلك حكى الدماميني في الحاشية المصرية على المغني عن ابن الأنباري‏.‏ ونقل الصاغاني في العباب عن الوزير الصاحب بن عباد، أنه يقال‏:‏ ضبعة بالهاء، وجمعه ضبع، فيكون اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء‏.‏ ويقال أيضاً‏:‏ ضبعانةٌ مؤنث ضبعان‏.‏

وقال الفيومي في المصباح‏:‏ الضبع بضم الباء في لغة قيس، وبسكونها في لغة تميم، وهي أنثى، وقيل‏:‏ يقع على الذكر والأنثى‏.‏

وربما قيل في الأنثى ضبعة بالهاء، كما قيل سبع وسبعة بالسكون مع الهاء، للتخفيف‏.‏ والذكر ضبعانٌ والجمع ضباعين، مثل سرحان وسراحين‏.‏ ويجمع الضبع بضم الباء على ضباع، وبسكونها على أضبع‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله صاحب المغني‏:‏ ولا يجتمع الليل والنهار، أي‏:‏ لفظهما، عند قصد الإبهام في التاريخ، نحو‏:‏ كتب لخمسٍ خلون، وسرنا خمساً، وأربعة أشهر وعشراً، فإنه لم يذكر واحداً منهما فضلاً عن اجتماعهما كما بينا‏.‏ فلا تعبير عن شيئين بلفظ أحدهما‏.‏

ونقل بعضهم كلام المغني في شرحه على الدرة وتعقبه بقوله‏:‏ وفيه نظرٌ لا يخفى، فإن قوله‏:‏ لا يجتمع الليل والنهار، إن أراد في الوجود فمسلم، لكنه لا يفيد، لأن المراد بالاجتماع في التغليب الاجتماع في الحكم، وإرادة المتكلم لدلالة اللفظ الواقع فيه التغليب عليهما‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه الإرادة واهية، إذ لا يتوهم أحد اجتماعهما في الوجود، وإنما المراد اجتماعهما في اللفظ‏.‏ فإذا لم يوجدا فيه فلا تغليب‏.‏ وهذا ظاهر‏.‏

وقول ابن هشام‏:‏ وإنما المسألة الصحيحة، أي‏:‏ لتغليب المؤنث على المذكر في التاريخ‏.‏ إذ الكلام فيه، وليس المعنى أنه لا يغلب المؤنث على المذكر إلا في التاريخ، إذ ليس الكلام على مطلق تغليب المؤنث على المذكر، كما فهمه الدماميني في الحاشية الهندية‏.‏

وقال معترضاً عليه‏:‏ أقول لا اختصاص لهذه المسألة بالتاريخ، فإنه يقال في غيره‏:‏ اشتريت عشراً بين جملٍ وناقة‏.‏

ويريد بالمثال أنه يغلب المؤنث على المذكر في غير التاريخ كما هو مدلول سياق كلامه‏.‏ ومثاله جارٍ على مذهب الفراء وأبي حيان‏.‏ وأما على ما ذكره الشارح المحقق فيجب أن يقول‏:‏ اشتريت عشرةً بالتأنيث، لتغليب المذكر‏.‏

وقول ابن هشام‏:‏ وضابطه أن يكون معنا إلخ، أي‏:‏ ضابط تغليب المؤنث على المذكر في التاريخ‏.‏

ولا يريد اعتراض الدماميني بقوله‏:‏ يقع التغليب، بدون هذا الضابط، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أربعة أشهرٍ وعشراً‏}‏، فإن ابن هشام قد غلط من قال بالتغليب في نحوها، فإن الآية ليست من التغليب في شيء كما تقدم بيانه‏.‏

وحاصل كلام ابن هشام أن التاريخ يكون بلا تغليب، كما في نحو الآية، ويكون بتغليب إذا كان داخلاً في الضابطة المذكورة‏.‏ والتغليب يكون فيه، وفي غيره كما ذكره الشارح المحقق وغيره في تلك الأمثلة‏.‏

وهذا مما أنعم الله به علي من فهم كلام المغني؛ فإن شراحه لم يهتدوا لمراده‏.‏ ولله الحمد على ذلك‏.‏

ولنرجع من هنا إلى شرح البيت، فنقول‏:‏ وصف النابغة الجعدي به بقرةً وحشية أكل السبع ولدها، فطافت‏.‏

وروي‏:‏ أقمت ثلاثة أيام وثلاث ليال تطلبه، ولا إنكار عندها ولا غناء إلا الإضافة، وهي الجزع والإشفاق، والجؤار وهي الصياح‏.‏

والنكير‏:‏ الإنكار، وهو من المصادر التي أتت على فعيل، كالنذير والعذير‏.‏ وأكثر ما يأتي هذا النوع من المصادر في الأصوات، كالهدير والهديل‏.‏ أي‏:‏ ما كان عندها حين فقدته إلا الشفقة والصياح، وتضيف مضارع أضاف إضافة‏.‏

وأورد البيت العسكري في موضعين من كتاب التصحيف، قال في الموضع الأول‏:‏ حدثنا أحمد بن يحيى، قال‏:‏ سمعت سلمة بن عاصم، يقول‏:‏ صحف الكسائي في بيت النابغة الجعدي، فقال‏:‏ هو تصيف، بالصاد غير معجمة، وتضيف، أي‏:‏ تشفق‏.‏ والإضافة‏:‏ الشفقة‏.‏ ويروى‏:‏ أن تضيف، بفتح التاء، أي‏:‏ تعدل ها هنا مرة وها هنا مرة‏.‏ يقول‏:‏ كان نكيرها لما رأت الشلو، أن تشفق وتجأر، لا شيء عندها غير ذلك‏.‏

وقال في الموضع الثاني‏:‏ يروى‏:‏ تضيف مضموم التاء والضاد معجمة‏.‏ ويروى‏:‏ تضيف مفتوح التاء فمن رواه بفتحها وهو الجيد، أراد تشفق‏.‏ ومنه قوله‏:‏ الطويل

وكنت إذا جاري دعا لمضوفةٍ *** أشمر حتى ينصف الساق مئزري

وفي الحديث‏:‏ حتى إذا تضيفت الشمس للغروب بضاد معجمة، أي‏:‏ مالت‏.‏ ويقال‏:‏ ضافت تضيف ضيفاً‏:‏ إذا مالت‏.‏

وأخبرني ابن الأنباري عن ثعلب، قال‏:‏ سئل ابن الأعرابي عن قوله حين تضيفت، فقال‏:‏ لا أعرفه، ولكن إن كان تصيفت بصاد غير معجمة فهو حين تميل، كما قال أبو زبيد‏:‏ الخفيف

كل يومٍ ترميه منا برشقٍ *** فمصيبٌ وصاف غير بعيد

يقال‏:‏ صاف السهم وضاف، حكيماً جميعاً، أي‏:‏ مال‏.‏ وحكى أبو بكر بن الخباز عن ثعلب عن ابن الأعرابي‏:‏ يقال‏:‏ صاف السهم بصاد غير معجمة‏:‏ إذا أخطأ، لم يقل عربيٌّ قط ضاف منقوطة‏.‏

وأنشد غيره‏:‏

فلما دخلناه أضفنا ظهورنا

وضفت فلاناً، إذا ملت عليه‏.‏ وأضفته، إذا أملته إليك‏.‏ ومنه قيل‏:‏ للدعي مضاف، لأنه مسندٌ إلى قومٍ ليس منهم‏.‏ انتهى‏.‏

وبعده‏:‏

وألفت بياناً عند آخر معهدٍ *** إهاباً ومعبوطاً من الجوف أحمرا

وخداً كبرقوع الفتاة ملمع *** وروقين لما يعدوا أن تقشرا

أراد أنها وجدت عند آخر معهدٍ عهدته فيه، ما بين لها وحقق عندها أن السبع أكله‏.‏ ثم فسر ذلك البيان بما ذكره بعد ذلك‏.‏ والإهاب‏:‏ الجلد‏.‏ والمعبوط‏:‏ الدم الطري‏.‏ والروقان‏:‏ القرنان‏.‏ وشبه خده لما فيه من السواد، وردع الدم والبياض، ببرقوع فتاةٍ لأن الفتيات يزين براقعهن، وبقر الوحش بيض الألوان لا سواد فيها إلا في قواثمها وخدودها وأكفالها‏.‏

وهذه الأبيات من قصيدةٍ طويلة، نحو مائتي بيت، للنابغة الجعدي الصحابي، أنشد جميعها للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومنها‏:‏

أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى *** ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا

وهي من أحسن ما قيل في الفخر بالشجاعة، وقد أوردنا منها أبياتاً كثيرة في ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة‏.‏

ومن أواخرها‏:‏

بلغنا السماء مجدنا وسناؤن *** وإنا لنرجو بعد ذلك مظهرا

ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له *** بوادر تحمي صفوة أن يكدرا

ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له *** حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا

والبيت الأول أورده شراح الألفية لإبدال مجدنا بدل اشتمال من الضمير المرفوع في قوله‏:‏ بلغنا‏.‏ وروي على غير هذه الرواية، وتقدم هناك‏.‏ ويروى بنصب مجدنا على أنه مفعول لأجله‏.‏

وأنشده صاحب الكشاف أيضاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورفعناه مكاناً علياً‏}‏، على أن الحسن البصري فسر المكان بالجنة، كما أن النابغة فسر المظهر بالجنة لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيت، وقال له‏:‏ إلى أين المظهر يا أبا ليلى‏؟‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أجل إن شاء الله ‏.‏

ولما أنشده البيتين بعده‏:‏ قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يفضض الله فاك ‏.‏

فكان من أحسن الناس ثغراً، وكان إذا سقطت له ثنية نبتت، وكان فوه كالبرد المتهلل، يتلألأ ويبرق‏.‏

المذكر والمؤنث

أنشد فيه،

الشاهد الخمسون بعد الخمسمائة

الوافر

فقلت لها‏:‏ أصبت حصاة قلبي *** وربت رميةٍ من غير رامي

على أن تاء التأنيث قد تلحق الحرف كرب إذا كان مجرورها مؤنثاً، ليدل من أول الأمر أن المجرور مؤنث‏.‏ والمشهور أنها تزاد في بعض الحروف للتأنيث اللفظي‏.‏

والبيت قبله‏:‏

رمتني يوم ذات الغمر سلمى *** بسهمٍ مطعمٍ للصيد لام

وذات الغمر‏:‏ موضعٌ، كذا ذكره ابن الأثير في المرصع‏.‏

وأنشد قول قيس الهذلي‏:‏ الطويل

سقى الله ذات الغمر وبلاً وديمةً *** وجادت عليها البارقات اللوامع

ولم أره في معجم البلدان، ولا في معجم ما استعجم‏.‏ وسلمى‏:‏ فاعل رمتني، وهي اسم امرأة، والباء متعلقة برمتني‏.‏ والسهم‏:‏ النشاب‏.‏ ولأم‏:‏ صفته، أي‏:‏ عليه ريشٌ لؤام، بضم اللام مهموز العين على وزن فعال‏.‏

قال صاحب الصحاح‏:‏ واللؤام‏:‏ القذذ الملتئمة، وهي التي تلي بطن القذة منها ظهر الأخرى، وهو أجود ما يكون‏.‏

تقول منه‏:‏ لأمت السهم لأماً‏.‏ ومطعم‏:‏ اسم فاعل من أطعم‏.‏ وحصاة القلب‏:‏ حبته‏.‏

والبيتان أنشدهما الزمخشري في المستقصى ولم يعزهما لأحد، وقال‏:‏ رب رميةٍ من غير رامٍ‏:‏ مثلٌ أول من قاله الحكم بن عبد يغوث المنقري، وكان من أرمى الناس‏.‏

وذلك أنه نذر ليذبحن مهاةً على الغبغب، فرام صيدها أياماً فلم يمكنه، فكان يرجع مخفقاً حتى هم بقتل نفسه مكانها، فقال له ابنه مطعم‏:‏ احملني أرفدك‏.‏ فقال‏:‏ ما أحمل من رعشٍ رهلٍ جبان فشل

فما زال به حتى حمله، فرمى الحكم مهاتين فأخطأهما، فلما عرضت الثالثة رماها مطعمٌ فأصابها، فعندها قال الحكم ذلك‏.‏ يضرب في فتلة إحسانٍ من المسيء‏.‏ انتهى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الحادي والخمسون بعد الخمسمائة

يا صاحبا ربت إنسانٍ حسن

على أنه قد جاء مجرور ربت مذكراً على خلاف الأول‏.‏ ويجوز أن يريد بالإنسان المؤنث فيوافق ما قبله‏.‏ والإنسان من الناس اسم جنسٍ يقع على الذكر والأنثى، والواحد والجمع‏.‏ كذا في المصباح‏.‏

وهذا الالتزام ليس بلازم‏.‏ على أن بقية الرجز يمنع ما أوله، كما سيأتي‏.‏

قال أبو علي في كتاب الشعر‏:‏ ولحقت بعض الحروف تاء التأنيث، وذلك رب وربت، وثم وثمت، ولا، ولات‏.‏

قال‏:‏ الطويل

ثمت لا تجزونني عند ذاكم *** ولكن سيجزيني الإله فيعقبا

وأنشد أبو زيد‏:‏

يا صاحبا ربت إنسانٍ حسن *** يسأل عنك اليوم ويسأل عن

وقياس من يسكن التاء في ثمت وربت أن يقف عليها بالتاء، كما يقف على ضربت‏.‏ وقياس من حرك أن يقف بالهاء، كما يقف على كيت وذيت‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من رجزٍ أورده أبو زيد في نوادره‏:‏

يا صاحبا ربت إنسانٍ حسن *** يسأل عنك اليوم ويسأل عن

إنا على طول الكلال والتون *** مما نقيم الميل من ذات الضغن

نسوقها سناً وبعض السوق سن *** حتى تراها وكأن وكأن

أعناقها مشرباتٌ في قرن

قال أبو زيد‏:‏ ليست التاء في ربت للتأنيث، فلهذا جاز أن تقول ربت إنسان‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ يا صاحبا أصله يا صاحبي، فالألف أصلها ياء‏.‏ ويسأل‏:‏ جواب رب، وهو العامل في محل مجرورها‏.‏

وقوله‏:‏ ويسأل عن معطوف على يسأل عنك، وكلاهما بياء الغيبة‏.‏ أراد‏:‏ يسأل عني بياء المتكلم‏.‏

وقوله‏:‏ إنا على إلخ، بكسر الهمزة ابتداء كلام‏.‏ وعلى بمعنى مع‏.‏ والكلال‏:‏ مصدر كل يكل، من باب ضرب، إذا تعب وأعيا‏.‏ والتون، بفتح التاء، والواو، وهو التواني‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ وتوانى في حاجته، أي‏:‏ قصر‏.‏

وقول الأعشى‏:‏ المتقارب

ولا يدع الحمد بل يشتري *** بوشك الظنون ولا بالتون

أراد‏:‏ بالتوان، فحذف الألف لاجتماع الساكنين، لأن القافية موقوفة‏.‏ والضغن، بكسر الضاد وفتح الغين المعجمتين‏:‏ جمع ضغن بسكون الوسط‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ إذا قيل في الناقة‏:‏ هي ذات ضغن، فإنما يراد نزاعها إلى وطنها‏.‏ والسن، بفتح السين المهملة، قال الرياشي‏:‏ هو أسرع السير‏.‏ والقرن، بفتح القاف والراء‏:‏ حبلٌ يقرن به البعيران‏.‏ والمشربات، بفتح الراء المشددة، قال أبو حاتم والرياشي والمازني‏:‏ هي المدخلات، من قوله‏:‏ وأشربوا في قلوبهم العجل ‏.‏

وقال أبو الحسن الأخفش‏:‏ ومن روى‏:‏ مسربات، بالسين المهملة فإنه يذهب إلى أنها تسرب في القرن، أي‏:‏ تذهب فيه وتجيء‏.‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وساربٌ بالنهار‏}‏‏.‏

وقول الشارح المحقق‏:‏ وتلحق، أي‏:‏ التاء، ثم أيضاً إذا عطفت بها قصةً على قصة، لا مفرداً على مفرد‏.‏ هذا هو المشهور‏.‏

وقد رأيت في شعر رؤبة بن العجاج عطف المفرد بها‏.‏ قال‏:‏ الرجز

فإن تكن سوائق الحمام *** ساقتهم للبلد الشآم

فبالسلام ثمت السلام

وكذلك استعملها ابن مالك، في جموع التكسير من الألفية، قال‏:‏ الرجز

أفعلةٌ أفعل ثم فعله *** ثمت أفعالٌ جموع قله

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والخمسون بعد الخمسمائة

الهزج‏؟‏لقد أغدو على أشق - ر يغتال الصحاريا على أنه جمع صحراء، فلما قلبت الألف بعد الراء في الجمع ياءً قلبت الهمزة التي أصلها ألف التأنيث أيضاً‏.‏

قال ابن جني في سر الصناعة‏:‏ قد اطرد عنهم قلب ألف التأنيث همزة‏.‏ والقول في ذلك أن الهمزة في صحراء وبابها، إنما هي بدلٌ من ألف التأنيث، كالتي في نحو‏:‏ حبلى وسكرى‏.‏

إلا أنها في صفراء وقعت الألف بعد ألف قبلها زائدة، فالتقى ألفان زائدتان، ولم يجز في واحدةٍ منهما الحذف‏.‏

أما الأولى‏:‏ فلو حذفتها لانفردت الآخرة، وهم قد بنوا الكلمة على اجتماع ألفين فيها‏.‏

وأما الآخرة‏:‏ فلو حذفتها، لزالت سلامة التأنيث‏.‏ وأما الحركة، فقال سيبويه‏:‏ إنه لما انجزم الحرفان، حركت الثانية، فانقلبت همزة، فصارت‏:‏ صفراء وصحراء‏.‏

فإن قيل‏:‏ ولم زعمت أن الثانية منقلبة، وهلا زعمت أنها زيدت للتأنيث همزة في أول أحوالها‏؟‏ فالجواب من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنا لم نرهم في غير هذا الموضع أنثوا بالهمزة، إنما يؤنثون بالتاء وبالألف، فكان حمل همزة التأنيث في نحو‏:‏ صحراء، على أنها بدلٌ من ألف التأنيث، لما ذكرنا أحرى‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أنا قد رأيناهم لما جمعوا بعض ما فيه همزة التأنيث أبدلوها في الجمع، ولم يحققوها البتة، وذلك قولهم في جمع صحراء وصلفاء‏:‏ صحارى وصلافى، ولم نسمعهم أظهروا الهمزة في شيءٍ من ذلك، فقالوا‏:‏ صحاريء وصلافيء‏.‏ ولو كانت الهمزة فيهن غير منقلبة، لجاءت في الجمع‏.‏

ألا تراهم، قالوا‏:‏ كوكب دريءٌ وكواكب دراريء، وقراء وقراريء، ووضاء ووضائيء، فجاؤوا بالهمزة في الجمع لما كانت غير منقلبة، بل موجودة في قرأت ودرأت ووضؤت‏.‏ فهذه دلالة قاطعة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الذي دعاهم إلى قلبها في الجمع ياءً، وهلا تركوها ملفوظاً بها، كما كانت في الواحدة، فقالوا‏:‏ صحاريء وصلافيء‏؟‏ فالجواب أنها إنما كانت انقلبت وأصلها الألف، لاجتماع الألفين، وهذه صورتها صحراا وصلفاا، فلما التقت ألفان اضطروا إلى تحريك إحداهما، فجعلوها الثانية، لأنها حرف الإعراب، فصارت صحراء وصلفاء‏.‏

وحال الجمع ما أذكره، وذلك أنك إذا صرت إلى الجمع، لزمك أن تقلب الأولى ياء لانكسار الراء في صحاري قبلها، كما تنقلب ألف قرطاس ياء في قراطيس، فكذلك تنقلب ألف صحراء الأولى ياء، فتصير في التقدير‏:‏ صحاري، وصلافي، فتقع الياء الساكنة قبل الألف الأخيرة الراجعة عن الهمزة لزوال الألف من قبلها، فتنقلب الألف ياءً لوقوع الياء الساكنة قبلها، وتدغم الأولى المنقلبة عن الألف الزائدة في الياء الأخيرة المنقلبة عن ألف التأنيث، فيصير صحاري‏.‏ أنشد أبو العباس للوليد بن يزيد‏:‏

لقد أغدو على أشق *** ر يغتال الصحاريا

وقال آخر‏:‏ الوافر

إذا جاشت حواليه ترامت *** ومدته البطاحي الرغاب

جمع بطحاء‏.‏ وكذلك ما حكاه الأصمعي من قولهم‏:‏ صلافي وخباري، جمع صلفاء وخبراء‏.‏ فبهذا استدللنا على أن الهمزة في صحراء وبابها بدلٌ من ألف التأنيث‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا أصل كل جمعٍ لنحو صحراء، ثم يخفف بحذف الياء الأولى فيصير صحاري، بكسر الراء وتخفيف الياء، مثل مداري، ثم يبدل من الكسرة فتحة فتنقلب الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، كما فعلوا في مدارى‏.‏ وهذان الوجهان هما المستعملان، والأول أصلٌ متروك يوجد في الشعر‏.‏

وقوله‏:‏ لقد أغدو مضارع غدا غدواً من باب قعد، إذا ذهب غدوة، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس‏.‏ والأشقر من الخيل‏:‏ الذي حمرته صافية‏.‏ والشقرة في الإنسان‏:‏ حمرة يعلوها بياض‏.‏ ويغتال‏:‏ يهلك، يقال‏:‏ اغتاله، أي‏:‏ أهلكه‏.‏ وعين الفعل واوٌ‏.‏

استعار يغتال لقطع المسافة بسرعة شديدة، فإن أصل اغتاله، بمعنى قتله على غرة وغفلة‏.‏ والصحراء‏:‏ البرية‏.‏ وقال الليث‏:‏ الصحراء‏:‏ الفضاء الواسع‏.‏ وقال النضر‏:‏ الصحراء من الأرض‏:‏ الملساء، مثل ظهر الدابة الأجرد، ليس بها شجرة ولا آكام ولا جبال‏.‏

ولم أقف على تتمة هذا الشعر‏.‏ وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان‏.‏ وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع عشر بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث والخمسون بعد الخمسمائة

الوافر

متى كنا لأمك مقتوينا

على أن مقتوينا جمع مقتوي بياء النسبة المشددة، فلما جمع جمع تصحيحٍ حذفت ياء النسبة‏.‏ والمقتوي، بفتح الميم‏:‏ نسبة إلى المقتى بفتحها، فقلبت الألف واواً في النسبة، كما تقول‏:‏ معلويٌّ في النسبة إلى معلًى‏.‏ والمقتى‏:‏ مصدرٌ ميمي‏.‏

قال صاحب الصحاح‏:‏ القتو‏:‏ الخدمة، وقد قتوت أقتو قتواً ومقتًى، أي‏:‏ خدمت، مثل غزوت أغزو غزواً ومغزًى‏.‏

قال‏:‏ المنسرح

إني امرؤٌ من بني فزارة ل *** أحسن قتو الملوك والخببا

ويقال للخادم‏:‏ مقتويٌّ، بفتح الميم وتشديد الياء، كأنه منسوب إلى المقتى‏.‏ ويجوز تخفيف ياء النسبة، كما قال عمرو بن كلثوم‏:‏

متى كنا لأمك مقتوينا

انتهى‏.‏

قال ابن جني في الخصائص‏:‏ كان قياسه إذا جمع أن يقال‏:‏ مقتويون ومقتويين، كما إذا جمع بصريٌّ وكوفي، قيل‏:‏ كوفيون، وبصريون، إلا أنه جعل علم الجمع معاقباً لياء النسبة، فصحت اللام لنية الإضافة إلى النسبة، ولولا ذلك لوجب حذفها، لالتقاء الساكنين، وأن يقال‏:‏ مقتون ومقتين، كما يقال‏:‏ هم الأعلون وهم المصطفون‏.‏

فقد ترى إلى تعويض علم الجمع من ياء النسبة‏.‏ الجمع زائدٌ‏.‏ انتهى‏.‏

ثم قال صاحب الصحاح‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ قال رجلٌ من بني الحرماز‏:‏ هذا رجل مقتوينٌ، وهذان رجلان مقتوينٌ، ورجال مقتوينٌ، كله سواء‏.‏ وكذلك المؤنث‏.‏ وهم الذين يعملون للناس بطعام بطونهم‏.‏

قال سيبويه‏:‏ سألت الخليل عن مقتويٍّ ومقتوين، فقال‏:‏ هذا بمنزلة الأشعري والأشعرين‏.‏ انتهى‏.‏

والواو من مقتوين في رواية أبي عبيد مكسورة، والنون منونة بالرفع‏.‏

وزاد عليه أبو زيد في نوادره فتح الواو، قال‏:‏ رجل مقتوينٌ ورجالٌ مقتوينٌ، وكذلك المرأة والنساء، وهو الذي يخدم القوم بطعام بطنه‏.‏

وقال عمرو بن كلثوم‏:‏

تهددنا وأوعدنا رويد *** متى كنا لأمك مقتوينا

الواو مفتوحة، وبعضهم يكسرها، أي‏:‏ متى كنا خدماً لأمك‏.‏ انتهى‏.‏

وقد تكلم أبو علي في كتاب الشعر على هذه اللفظة وبين وجوه استعمالها، مع شرح كلام أبي زيد وغيره، فلا بأس بإيراد لاكمه، وإن كان فيه طول‏.‏ قال‏:‏ أنشد أبو زيد‏:‏

متى كنا لأمك مقتوينا

قالوا‏:‏ رجل مقتويٌّ، وقالوا في الجمع مقتوون، كما قالوا أشعريٌّ وأشعرون، فحذفوا ياءي النسب مع الجمع بالواو في هذين الموضعين ونحوهما‏.‏

فأما تصحيحهم الواو فإن شئت قلت صححوها في الجمع الذي على حد التثنية، كما صححوها في جمع التكسير حيث قالوا مقاتوة، كما أنهم لما حذفوا ياءي النسب في الجمع على حد التثنية حذفوهما في التكسير، فقالوا‏:‏ المهالبة‏.‏

وإن شئت قلت‏:‏ بنوا مقتوون على الجمع، كما بنوا مذروان على حد التثنية‏.‏

ألا ترى أنهم لم يفردوا الواحد منه بغير حرف التثنية، كما لم يفردوا واحد مذروان، وإنما استعمل واحد بحرف النسب مقتوي‏.‏

وفيه قول آخر، وهو والواو صحت لما كانت النسبة مرادةً في الكلمة، فصححت بالواو مع الحذف، كما صحت مع الإثبات، ليكون تصحيحها دلالة على إرادة النسب، كما صحت الواو والياء في عور وصيد، ليعلم أن الفعل لمعنى ما يلزم تصحيح الواو فيه‏.‏ وكذلك ازدوجوا واعتوروا‏.‏

ألا ترى أنك لو بنيت منه افتعلوا، لا تريد فيه معنى تفاعلوا، لأعللت‏.‏ فأما النون فقد فتحت كما فتحت في مسلمون، وقد جعلت حرف الإعراب، كما جعلت في سنين ونحوه حرف الإعراب‏.‏

حكي ذلك عن أبي عبيدة، وحكاه أبو زيد، إلا أن أبا زيد حكى الفتح والكسر فيما قبل الياء فيمن جعل النون حرف إعراب، وحكيا جميعاً‏:‏ رجلٌ مقتوين ورجلان مقتوين ورجال مقتوين‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ وكذلك المرأة والنساء‏.‏

فأما ما انفرد أبو زيد بحكايته من كسر الواو التي قبل الياء وفتحها، فالأصل فيه الكسر، ألا ترى أنك لو أثبت ياء النسب لقلت مقتويون، فإذا حذفتها وأنت تريدها، وجب تقدير الكسرة، كما كانت تقدر مع الياءين لو أثبتهما‏.‏

فالذي فتح إنما أبدل من كسرة الواو فتحة، كما أبدل الكسرة من الفتحة في قوله‏:‏ الوافر

ولكني أريد به الذوينا

فأبدل من الفتحة في الواو الكسرة‏.‏ يدلك على أن الأصل فيها الفتح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذواتا أفنان‏}‏‏.‏ وإنما جاز ذلك في الفتحة والكسرة لأنهما كالمثلين‏.‏

ألا ترى أنهم قد حركوا بالفتح مكان الكسر في جميع ما لا ينصرف، وجعلوا النصب والجر على لفظ واحد في التثنية وضربي الجمع المسلم في التأنيث والتذكير‏.‏ فكما كانت كل واحدة من الكسرة والفتحة في هذه المواضع بمنزلة الأخرى، كذلك جاز أن تفتح الواو وتكسر من مقتوين فيما رواه أبو زيد‏.‏

فأما إجراؤه الكلمة وهي جمعٌ على الواحد فيما اجتمع أبو زيد وأبو عبيدة في حكايته، فوجهه أنه قد جاء‏:‏ هن أم الكتاب ولم يكن أمهات‏.‏

فكما أجرى الواحد على الجميع، كذلك في مقتوين وصف الواحد بالجميع‏.‏ وكأن الذي حسن ذلك أنه في الأصل مصدر‏.‏

ألا ترى أنه مفعل من القتو، والمصدر يكون للواحد والجميع على لفظ واحد، فلما دخله الواو والنون، وكانا معاقبين لياء النسب صارتا كأنهما لغير معنى الجمع، كما كانتا في ثبة وبرة لما كانتا عوضاً من اللام المحذوفة لم يكونا على حالهما في غير ما هما فيه عوض‏.‏

ألا ترى أن نحو طلحة لا يجمع بالواو والنون‏.‏ فجرى مقتوون على الواحد والجميع كما يجري المصدر عليهما‏.‏ وهذا الاعتلال يستمر في قول من لم يجعل النون حرف إعراب وفي قول من جعلها حرف إعراب‏.‏

ألا ترى أن من قال سنين فجعل النون حرف إعراب فهو في إرادته الجمع، كالذي لم يجعلها حرف إعراب‏.‏

ومن هذا الباب إنشاد من أنشد‏:‏ الرجز

قدني من نصر الخبيبين قدي

من أنشده على الجمع أراد الخبيبين، ونسب إلى أبي خبيب، يريده ويريد شيعته‏.‏ وعلى هذا قراءة من قر‏:‏ سلامٌ على إل ياسين أراد النسب إلى الياس‏.‏ وكما جمع هذا النحو على حد التثنية، كذلك جمع على التكسير في نحو المهالبة والمناذرة‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ الأعجمون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نزلناه على بعض الأعجمين‏}‏‏.‏ ومن زعم أعجمين جمع أعجم فقد غلط، لأن نحو أعجم لا يجمع بالواو والنون، كما أن عجماء لا تجمع بالألف والتاء إذا كانت صفة‏.‏ فإنما أعجمون جمع أعجمي، وحذف ياء النسب‏.‏ وإنما أعجم وأعجمي مثل أحمر وأحمري، يراد بكل واحد منهما ما يراد بالآخر‏.‏ إلا أن حكم اللفظ مختلف‏.‏

فأما الألف في قوله‏:‏ مقتوينا، فتحتمل ضربين‏:‏ من قال مقتوينٌ فالألف بدلٌ من التنوين كالتي في رأيت رجلاً‏.‏

ومن قال هؤلاء مقتوون ومقتوين فالألف للإطلاق، كقوله‏:‏ الوافر

أقلي اللوم عاذل والعتابا

انتهى‏.‏

وفيه لغة أخرى، وهي ضم الميم، ولم أر من ذكرها ومن شرحها غير أبي الحسن الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد وغير أبي علي‏.‏ قال في أواخر البغداديات‏:‏ قد كتبنا في هذه الأجزاء، وفي غيرها شرح قوله‏:‏

متى كنا لأمك مقتوينا

ودللنا على صحة قول الخليل فيه، من أنه جمعٌ يراد به النسب على حد الأعجمين والأشعرين، بتصحيح لام الفعل، وأن ذلك إنما صح، كما صح عوروا واجتوروا‏.‏

وهذا دليل بين على صحة قول الخليل‏.‏ فأما ما أنشدناه أبو الحسن الأخفش ليزيد بن الحكم، قوله‏:‏ الطويل

تبدل خليلاً بي كشكلك شكله *** فإني خليلاً صالحاً بك مقتوي

فإنه أنشدناه عن أحمد بن يحيى مقتوي بضم الميم، وهكذا صحته‏.‏

وحدثنا عن أحمد بن يحيى، أنه قال‏:‏ المقتوي من الخدمة‏.‏ وهو عندنا كما قال‏.‏ وشرحه أنه مفعللٌ، فالواو الصحيح في الكلمة لام الفعل، والياء منقلبة عن اللام الزائدة وأصله واو‏.‏

والدليل على ذلك، أنه مثل احمررت، فأما الواو فصحت، كما صحت في ارعويت ونحوه، إذ لا يجوز أن يتوالى في الكلمة إعلال لامين، ولا إعلال عين ولام، لم يوجد ذلك في شيء إلا فيما حكم له بالقلة‏.‏

وفي هذه القصيدة حروف أخر مثلها، وهو قوله‏:‏ محجوي، ومدحوي، وهو من حجا ودحا‏.‏

ويدلك أيضاً على ما ذكرنا من أن مقتوي في البيت مفعللٌ، وأن الميم ليس بمفتوح، إنما هو ميم مفعلل، تعديه إلى قوله خليلاً‏.‏ والمفتوحة الميم لا تتعدى إلى شيء، لأنه ليس باسم فاعل‏.‏

فإن قلت‏:‏ أرأيت مفعللٌ نحو مرعوٍ متعدياً في موضع، فيجوز تعدي هذا الذي في البيت‏؟‏ وليس هذا الباب يجيء كله غير متعد‏؟‏ فالقول فيه أن هذا الباب من اسم الفاعل كما قلت غير متعدٍّ، كما أن فعله كذلك، إلا أن الشاعر للضرورة يجوز أن يكون حمل ذلك على المعنى فعداه‏.‏ والمعنى‏:‏ فإني خليلاً بك خادمٌ‏.‏ فحمله على هذا المعنى وعداه‏.‏ وإن شئت أضمرت شيئاً دل عليه مقتوي فتنصبه به‏.‏ انتهى‏.‏

وتبعه ابن جني في المحتسب، قال قالوا‏:‏ ارعوى افعل، واقتوى، أي‏:‏ خدم وساس، فمقتوٍ في بيت يزيد مفعل من القتو، وهو الخدمة‏.‏ وخليلاً عندنا منصوب بفعل مضمر، يدل عليه مقتو، وذلك أن افعل لا يتعدى إلى المفعول به، فكأنه قال‏:‏ فإني أخدم وأسوس، وأتعهد، وأستبدل بك خليلاً‏.‏ ودل مقتو على ذلك الفعل‏.‏ انتهى‏.‏

وقد شرحنا قصيدة يزيد بن الحكم في أول باب المفعول معه، في الشاهد الثمانين بعد المائة‏.‏

والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي، تقدم سببها وشرح أبياتٍ منها مع ترجمته في الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة‏.‏

وهذه أبياتٌ منها‏:‏

بأي مشيئةٍ عمرو بن هندٍ *** تطيع بنا الوشاة وتزدرينا

بأي مشيئةٍ عمرو بن هندٍ *** نكون لقيلكم فيها قطينا

تهددنا وأوعدنا رويد *** متى كنا لأمك مقتوينا

فإن قناتنا يا عمرو أعيت *** على الأعداء قبلك أن تلينا

قوله‏:‏ بأي مشيئة متعلق بتطيع‏.‏ وعمرو منادى مبنيٌّ على الضم‏.‏ قال شراح المعلقة‏:‏ هو منصوب على أنه إتباع لقوله‏:‏ ابن هند، كما قيل‏:‏ منتن، فأتبعوا الميم التاء، والقياس الضم‏.‏

وعمرو بن هندٍ هو ملك الحيرة في الجاهلية، قتله صاحب هذه المعلقة، وتقدم سبب قتله هناك‏.‏ وتزدرينا‏:‏ تحتقرنا‏.‏ والمعنى‏:‏ أي شيءٍ دعاك إلى هذه المشيئة، ولم يظهر منا ضعف يطمع الملك فينا حتى يصغي إلى من يشي بنا عنده، ويغريه بنا فيحقرنا‏؟‏ وتقدير تطيع بنا، أي‏:‏ في أمرنا‏.‏ والقيل، بفتح القاف‏:‏ من هو دون الملك‏.‏ وفيها، أي‏:‏ في المشيئة‏.‏ والقطين‏:‏ جمع قاطن، من قطن بالمكان إذا أقام فيه‏.‏

يقول‏:‏ كيف شئت يا عمرو أن نكون خدماً ورعايا لمن وليتموه أمرنا، أي‏:‏ ما دعاك إلى هذه المشيئة، ولم يظهر منا ضعفٌ يطمع الملك فينا‏.‏

وقوله‏:‏ تهددنا وأوعدنا رويداً هذا استهزاءٌ به‏.‏ وهو بالجزم على أنه أمر، أي‏:‏ ترفق في تهددنا وإيعادنا، ولا تبالغ فيهما، متى كنا خدماً لأمك حتى نهتم بتهديدك ووعيدك إيانا‏؟‏ وروى‏:‏ تهددنا وتوعدنا بالمضارع على الإخبار‏.‏ ثم قال‏:‏ رويداً، أي‏:‏ دع الوعيد والتهديد وأهمله‏.‏

قال شراح المعلقة، قالوا‏:‏ وعدته في الخير والشر، فإذا لم تذكر الخير، قلت‏:‏ وعدته، وإذا لم تذكر الشر، قلت‏:‏ أوعدته‏.‏

وذكر ابن الأنباري أنه يقال‏:‏ وعدت الرجل خيراً وشراً، وأوعدته خيراً وشراً‏.‏ فإذا لم تذكر الخير، قلت‏:‏ وعدته‏.‏ وإذا لم تذكر الشر، قلت‏:‏ أوعدته‏.‏

وقوله‏:‏ فإن قناتنا إلخ، قال الزوزني‏:‏ العرب تستعير للعز اسم القناة‏.‏ يقول‏:‏ إنا قناتنا أبت أن تلين لأعدائنا قبلك‏.‏ يريد‏:‏ أن عزهم أبى أن يزول بمحاربة أعدائهم، لأن عزهم منيعٌ لا يرام‏.‏

وأنشد بعده‏:‏